موقع أدب الأهواز

موقع حول الأدب الأهوازی والعربی فی إیران

موقع أدب الأهواز

موقع حول الأدب الأهوازی والعربی فی إیران

حمزة کوتی وقصیدة : طویلة کأعناقِ القصب

بقلم الأستاذ : علی عبدالحسین

مُنذ أیامِ رونقِ اُسبوعیة الأهواز (حوالی 15 عاماً) کنتُ اُتابعُ نشاطاته الأدبیة الدؤوبة المتزنة الهادئة. کان ومازال مترجماً متمرساً للشعر العربی الى اللغة الفارسیة. لقد ترجم ونشر مجموعاتٍ شعریة لشعراء عرب معاصرین کبار کأدُنیس وجمال جمعة ونوری الجراح...ولمّا إنغمس بالشعر حدَّ الإرتواء بدء بالتعبیر الشاعری الجمیل عن مکنوناتهِ الغنیة. والیوم حمزة کوتی هو علمٌ شامخٌ فی الشعر والادب الاهوازیین.

ذات لیلةٍ شِتویةٍ جمعنی بهِ الزمانُ وعبر الکاتبین العزیزین خلیل امیری رعد حزباوی. فلقد وجدتهُ إنساناً مثقفاً متواضعاً یعیش لحظاته بشاعریة قصوى. لم یبرح السیجارة والقهوة...یُدخن ویستمتع بالتدخین أیُما إستمتاع...ویحسو القهوةَ کوباً تلو الکوب ما یذکرنی بأدباء المقهای العراقیین والسوریین... یُخاطبک بشکل بسیطٍ و ودیٍ ( علی..او أخی علی..)وکأنه عاش معک ردحاً من الزمن...وبهذا فعله یکاد یذکرنی (مرةً اُخرى)بشعراء الشیوعیین من الستینیات من القرن المنصرم ومخاطبتهم لبعضهم بعضاً؛ رفیق...

تفاتحنا الحدیث معاً، تسائلنا وتناقشنا أموراً عدة. أنه قارئٌ مُحنکٌ، وقد قام بتثقیفٍ ذاتیٍ عصری وغنی لنفسه. فصار یعرف الکثیر حول الشعر والترجمة والادب بشکل عام...ولمّا تطرقنا الى الفکر، وجدته مُطلعاً على فلسفة کبار الفلاسفة (خاصة الفلاسفة الآلمان)مثل هادیجر وهوسرل ونیتشه...ومن خلال تتبعی لآثاره فی الشعر عرفتُ أنه کوّن لنفسهِ نهجاً فی فکر وکتابةِ الشعر وأنه لم یمارس الشعر إعتباطیاً و دونما هدیٍ...بل أنَّ له طریقة مُحددة واضحة المعالم یصبُ فی بوتقتها بناتِ فکرهِ ومشاعره..

وأما شعره(المقطوعة الشعریة)؛ طویلة کأعناقِ القصب، فإنه وکما هی طبیعةُ قصیدة النثر، عبارة عن قبسات مشحونة بالفکر والعاطفةِ فی معظم الأحوال. قرأتُ الشعرَ هذا وتأملتُ فیه کثیراً فوجدتُ فیه دُرراً کثیرة وکبیرة راسبة فی قاع محیطهِ. ومن میزاتِ قصیدة النثرِ أنها تمنح القارئ متعة عبر الإمعانِ والتفکیر حتى تتحصل المشاعر الروحیة والفکریة. خلوُ هذا النوعِ من الشعر من بحور العروض وتحدیاً نمطها التقلیدی وشعر التفعیلة، إضافة على عدم ضرورة للقافیة، یفتح المجال أوسع للموهبة الشعریة لکی تبدع فی الحسِ والخیالِ والرأی...

اُحاول قرآءة الشعر هذا وحسب منظاری، وقد أختلفُ مع الشاعرِ ولکن الشعر الجید هو ذلک الشعر الذی تتعد قرآءاته وتأویله. إنَّ هذا النوع من الشعر غنیٌ بالعواطفِ والتعابیر لأنهُ عمیقٌ ومتسع. یستهل الشاعر حمزة کوتی شعرّه بــ:

 یَحْضَرْن، ثالثة ، و یَبْتَسِمْن للأصابع التی تحفرُ الأرض . الألمُ یکبرُ

فی کِبْد التین مهجورًا

وهنا مَن یحضرُ هو مؤنثٌ، وتعداد دفعاتِ الحضورِ ثلاث مرات. على هذا أظن عقود العمر الثلاثةِ هی التی تتکرر هُنا ویبتسمن للأصابع أو الجهودِ أو الکلماتِ التی تحفر سوح العمرِ او القلبِ...ولم تحصل على خیرٍ کبیرٍ من سعادة و..، فیکبرُ الألمُ فی قلبِ الشاعرِ مهجوراً...

ویستمر الشاعر فیقول: ساحـرٌ یمشی على غیمة

نجمٌ یزیحُ السَّتارَ

عن کیفیّة الحَجَر .

والساحر-النجم هو الشاعر الذی یسیر على سطوحٍ نضرة من الروح والقریحة لیکشف الستار ویسبر الحقیقة الکامنة خلفَ الأشیاءِ او الناسِ الذین لا یمارسون مهنة الروح والعاطفةِ. فالشاعر وبواسطة الشعر یُوقظُ فینا العواطفَ النائمة المتجمدةِ، هی مهمة وجودیة وأساسیة للشاعر النجم والساحر...وأنه نجمٌ لأنه یُنیرُ ظلمة الأیامِ، بما یُلهمُ له وأنه ساحرٌ لأن من الکلمةِ لسحرٌ.

جَدّی یعانقه نسیمٌ شابٌّ

و الدنیا کوابیسُ المرایا .

والجدُ هو القدیمُ فی غالبِ الظنِ. القدیمُ الذی یمر بهِ الجدید لیُجددهُ بإعطاءه حیاةً کالنسیم خفیفة وعذبة و روحانیة. ولکن النسیمَ لا تتمُ مهمتهُ سهلة فالدنیا او طبیعة التغییر لیست جمیلة بل أنها أشبه بکابوسٍ لما یکتنهها من صعابٍ آتیة ممن هم منا ومثلنا فهم ماثلون فی مرایانا واقفون أمامنا...

یغسل عباءته فی الماء

هذه الموسمُ

فیجب أن تُخبرَ القرویّة

بعَوْدة أخیها

من حناجر القصب .

ویعودُ موسم الحیاةِ. ولکن لماذا یُشیرُ الى المذکر بضمیر مؤنثٍ؟! قد یکون خطأٌ وقد تکون الاشارة الى العباءة ولیست الى الماء. ویبدو هذا هو الأرجح لأنّ الموسم مرفوعٌ، وهو فاعلٌ فیصبحُ صفة للعباءة. وإنْ کانتْ للماء فلابد أن تکون ضرفاً للزمان فتُنصب. فکأنه یقولُ: هذه العباءةُ الموسمُ. الجَدُ المشارُ الیهِ أعلاه یغسلُ عباءته بالماء، أیْ یُزیل أدرانَ الزمنِ . فیجب أن تُخبر القرویة. ومن تکون هذه القرویة؟ أظنها هی المرأة القدیمة لما للقریة من رمزیة الى عدم مواکبة المدینة المتحضرة. ولکن ماذا یقصد بــ: حناجر القصبِ. أغلب ظنی أنّ الشاعر یقصد بالصوتِ العاطفی الصادرِ من الطبیعةِ، طبیعة الانسانِ الفنانِ الذی یرید تحدیث فهمه وفنه.

قطرة الندى أسطرلابُ الأنبیاء

أصحابُنا : حدیدة ٌو ورقٌ

زمنٌ دائمُ التشییع

أصابعُ من أجل کواغد .

بما یحتوی الندى من شمیمٍ وعذوبةٍ و طراوةٍ  ونقاوة جدیرٌ بهِ لیکون بوصلة للأنبیاء. وهنا القطرة الدائریة تشکل دائرة البوصلة. وسقوطها من الاعلى دالٌ على مصدرها وهو السماء. أصحابنا: حدیدة و ورقة. الحدیدة فی کثیر من الاحیان ترمزُ الى البأسِ الآتی من السیف والمسدسِ...والورقة هی روح الشاعر والمثقفِ. فصاحبا الشاعر فی مجتمع من العالمِ الثالثِ هما الشرطی والورقِ. یلازمانه رغم اِرادتهِ. زمنٌ دائم التشییع.. هو الزمن المَیِّت والمُمیت. وتبقى أصابع الشاعر مِلکاً للأوراقِ التی من الواجب أن تُمتلأ بهموم الشاعر الذی یعانی من زمن الموت.والموت قد یعنی اموراً عدة مثل الابتعاد عن المصدر الاولی السماء-الله..او قد یعنی فقد الأمن والحریة والعدالة...

جمال ُالدنیا فی وجه واحد من عُمْلة

الخدودُ أوراقٌ یُمَزّقها البَرْدُ

و القَمَرُ کاتبٌ عدلٌ .

جمال الدنیا یتجسدُ فی المرأة-الحب. المرأة التی هی الکینونة والحیاة. المرأة الانسانة المانحة للحبِ والأمل. هی بمثابة ظرفٍ حاملٍ للشعر الجمیل المُدرِک والمعبر عن الحزن والجمال. لکن هذه المرأة-الورقة والشعر تمزقها قساوة الهموم. فالبرد هو انعدامٌ للحرارةِ. والبرد حزنٌ یسلب المرءَ حرارة الحیاة. ولکن مع کل قساوة البردِ الذی یظلم الجمال ویمزقه یبقى الشاعر مؤمناً بالقدر المکتوب بواسطة کائن روحانی فی الاعلى، یستطیع القمر أن یدل على کاتب هذا القدر.

الکلماتُ صبایا بریئاتٌ تتقاسمها الأفـواه .

خیطُ النور یلج خُرْمَ إبرة

أُذُنُکِ صَدَفة و غرائزی نار ٌفی هشیم .

للکلمة قیمة الفتاة. والشاعر یعشقهما فی الآن الواحد. ومن البدیهی أنَّ مکان الکلمة او مصدرها هو الفم. ایراد الفم والفتاة معاً یـُذکَّر بالقبلة. الکلمات قـُبلٌ تتوزع على الافواه. فتصیر الکلمة-الفتاة عشقاً ومتعة وتعبیراً کبیرا. وبراءة الکلمة-الفتاة قائمٌ حتى ترد الفمَ، وعندما تُقضم تصبح جزءا من خطیئة. خطیئة ترمز الى ذنبٍ إرتکباه آدم وحواء فطُردا من الجنة. فیـُستنتج من هذا أنّ اللذة لن تحصل دون إثمٍ فی أحیانٍ کثیرة هامة ومحوریة. وأما خیط النور...أظنُ الشاعر یرید قول؛ وصول الإلهام والشعر فی أشد الظروفِ. اُذنکِ صَدَفة...اجتماع الاذن والصدفة یوحیان الى دقة ورهفة السمع الآتی من الجسد-البحر. والغریزة هنا صوت الشاعر الناقلِ لکمٍ کبیرٍ من شهیةٍ ومیلٍ للمرأة-الحیاة.

لا هدفَ لها رائحة الهَیْل

غیرُ تعطیر الزَّمَن

و الجَرَسُ عشیقُ فتیات المدارس .

رائحة الهیل هنا إیقونة للشعرِ. الشعر والفن یجعلان الحیاة أفضل. والجَرس مرة اُخرى (مثل القصب) یرجع بنا الى الصوتِ. صوت الشاعر او صوتٍ رنّانٍ جمیل کصوت جرس المدرسة الذی یعود بالمرء الى أیام الطفولة الملأى بالحرکة والنزق وحب سریع یصیدنا بشباکه المُمتعة الجمیلة. وهنا صوت الشاعر-العشیق جرسٌ یرن فی آذان الفتیات العاشقات للشعر، الشعر الذی هو رائحة هیل تعطر الزمن بالفن والعواطف...

کُلَّ جمعة أستیقظُ عاریًا من حُلْم .

الفقرُ شَهْوةُ الرائی

و الرَّبُّ عنکبوتٌ یبنی بیته

فی إبط عصفور مَیَّت .

للجمعة قداسة خاصة فی الحضارة العربیة-الاسلامیة. ولکن لایجد الشاعر حلمه او اُمنیته فی تلک القداسة. وفی حیاة الشرق نرید تحقیق الامانی عبر الدعاء والصلاة والعبادةِ. بینما الامانی والسعادة لا تتأتى إلا بالتخطیط والعلم والعمل الجاد...وأما الفقر والشهوة..أظنهما یشکلان خلأً شدیدا یمنع الحصول على الحلم...الفقر هو شهوة للمال والشهوة فقرٌ للمُشَتهى. والرب عنکبـ...لا أظنی اتفق مع الشاعر على هذا التعبیر. لیتهُ قالَ ربی عنکبوتٌ لیصبح ربه خاصاً به یعرفه من منظاره ولا علاقة له برب(الرب-الله) الآخرین. على کلٍ أفهم من الشاعر جمود الدین وعدم مواکبته للعصر وعلومه. الدین او بالاحرى فقه الدین والکلام اللذان لم یتغیرا لیصبحا مناسبین مع الزمن.

النَّهْرُ شاعرٌ للأطفال ،

أراه کلَّ مساء یقرأُ قصائدَه الجدیدة

الخبزُ طازجٌ و الغیمُ ضیفٌ ضالّ .

قد یکون النهر هو الزمن. زمن الاطفال جمیلٌ. لکنه ناقص السعادةِ بسبب قول الشاعر: الخبز طازجٌ والغیم ضیفٌ ضال. فقد یشبع أکلاً والمرء ولا یرتوی شرابا...دائماً یوجد نقص لکی یخل بسعادة وعیش الانسان-الطفل. أراهُ کل مساءٍ...لا إنقطاع للشعر والمشاعر المتبلورة قصائدَ جدیدة. واِنها تعبر عن مُتعٍ منقوصةٍ دائما فی جانب ما.

النَّهْرُ خدٌّ ناعمٌ

إلى أین ذاهبٌ أنتَ بهذه السَّکـّین

إلى المقبرة ، کی أحفرَ قبرًا للجرادة

اختنقت فی النّفط .

النهر والخد والنعومة مزیجٌ من الزمن والانسان-المرأة او الحب. وهنا یتجلى الزمن لیکون إمرأة. وأما التسائل؛ الى أین ذاهب انتَ بهذه السکین؟ -الى المقبرة..الخ. الذهاب الى المقبرة لحفر قبرة للجرادة، یرمز الى محاولة دفن الواقع الجدب-الجراد. ودفن الواقع لا یتم الا بولادة واقع جدید. فهی الثورة على الواقع من أجل التغییر. والنفط فی الشرق الاوسط جالب الکوارث والدواهی على أهلهِ لما یشکل من مطامع للحصول علیهِ. وبعد الحصول علیهِ تُستحضر امورا کثیرة من اَجل حفظه وعلى حساب الشعوب.

سَقَطَت ساعتی فی الماء

و توقفت سُبُلی عن السیر

الأزاهیـرُ أسرَّة

یزنی علیها الهواءُ و الفراشات .

سقوط الساعة فی الماء هو غرق وموت وتعطیل الزمن. والموت وقوفٌ عن أی حرکة. والازاهیر الواقفة لابد أن تتحمل ظلم الحشرات التی تجلس علیها. فمن یقف عن السیر وهو کمیتٍ لن یستطیع الذود عن نفسه. ومن یتخلف ویتأخر یضعف والضعیف معرضٌ لأی جور وإعتداءٍ.

جَوْشَنی ثائرٌ على شریعة النبات

و النُجومُ شظایا مرآة .

الدرعُ ثائرٌ على شریعة النباتِ، او شریعة الغابِ. ویجوز أن تکون الشریعة بمعنى القوانین والاعراف السائدةِ. والنجوم هنا قد تکون هدایات او علوم أصبحت متناثرة فی الاباعد. أنها مُکسرة ولیست فی متناول الید. لقد تلاشت شظایا بعد ما کانت مرایا لرؤیة الذات والواقع والحقیقة. وبعد خسارة العلم اوالنور والهدى فلابد من ثورة على قوانین فاقدة لتلک المعارف والمعنویات...

فی غیاب الناطور

أخذوا یسحقون الجُرْفَ

و یهلکون بیوتَ الحلازین .

قد یکون الناطورُ القائد والکاریزما والنبی او العقل والتدبیر..الخ. فی غیابه یغیب الانسان. والحلازین هی الناسِ. الناس-الحلازین الذین هم ینطوون على ذواتهم لیصبحوا ضعفاءً ومعقدین وهم بلا حرکةٍ نحو الأمام. غیاب العقلانیة الدالة للخلاص یجعل الناس کائناتٍ هشة سائرة فی الظلام ودنما هدى وأمن.

القمرُ ناطورُ المراکب

تحملها طیورُ النَّوْم إلى بغداد .

مرة اُخرى یعود الشاعر لیؤکد على أیقونة القمر. القمر الدال على النور والهدایة والسماء والمصدر-الاُم. القمر هو من یحرس ظروف الحیاة. تلک الظروف التی نتمناها لربما تعود بنا الى اوج الحضارة فی القرن الرابع من الهجرة فی بغداد. وهنا رأیٌ لدى المفکرین العرب یقول بأن هزیمة العقلانیة-المعتزلة هو ما أدى بالحضارة للإنحطاط والاُفول.

بقى معنى بریئًا هذه الدرویش

و ینام فی رأس قلمی

و لیس بمستطاعی

أن أتعلّمَ شیئًا

لا موسیقى و لا زنابیر.

بقى معنــى بریئاً هذه أم هذا؟ وفی غالبِ ظنی أنه خطأٌ مطبعیٌ لیس غیر. والشطر هذا یقولُ أنّ الشاعر مجرد فکرة صوفیة او أنه إنتهج سبیلا وحیداً هو السلوک الصوفی-العرفانی. والفکرة تتجلى عبر القلم، برفقة هذا القلم وإستحواذه على کیان الشاعرِ وعقلیته لا یستطیع فعل فن اوشیئ آخر سواه. وبعبارة اُخرى أنه تحول الى کلٍ عرفانیٍ شعریٍ یسعفهُ مُسغفٌ واحدٌ لن یکون غیر القلم.

الدنیا طویلة کأعناقِ القَصب.

کما أشرنا سابقاً الى قساوة الحیاة، أنها تصبح مدیدة بلا نهایة للعذابِ لکن فی نفسِ الوقت یشعر الانسان بحاجة ماسة الى محبة متجلیة فی الفن والشعرِ تمدهُ بالقوة والاصطبار فی هذا النفقِ المُظلم العسیر الطویل. ولا ننسَ أن جنس القصبِ من خشبِ، هی الدنیا المتخشبة التی یحاول الفنان أن یعید لها شیئاً من اللطافةِ بالشعرِ والموسیقى...فالدنیا صعبةٌ ولا دواءَ لها دون فن ما.

 الناسُ هنا یخافون الملح

و الملحُ مَرَضٌ سِرّیٌّ

لا شفاءَ منه .

الملحُ فی منظور الشاعر، قد یکون هو الفن. فلابد من فن الحیاة. الملحُ لذة الطعامِ. کذلک الفن هو متعة فی الحیاة. لکن کثیرا من الناس لا یقتربون من هذا الملحِ الفن-المتعة ویخشونه. بینما هو غریزةٌ فی نفس البشر ولا هروبَ منه مهما نحاولُ. فهناک رغائب او لذائذ تکمن فی نفس الانسان تتجلى بشکل فنون للحیاةِ، کبتُ هذه الامیال یؤدی الى امراض نفسیة. و للشاعر إشارة الى آراء علماء النفس فی نظریاتٍ مثل اللاشعور والظل والرموز الموروثة...

الکأسُ تثفُلُ نورَ الأصداف

و السُلَحْفاة ُتعومُ فی روحی .

الکأس هو ظرف الشراب. والشراب هو المحتوى القیم. فی هنا الکأسُ جسم الانسان الذی لا یحتمل فحواهُ الشراب-النور. فإن لم یجد له طریقاً للنضوج والعروج سوف یتلاشى. وذلک بسبب البطأ فی حرکة السلحفاة او العزم للروح. النور السریع بحاجة الى مرکبٍ سریع لهذا تجد مَظروفه الجسد یعانی. والمعاناة فی الحیاة هی بهذا السبب ای عدم تحقیق السعادة او الطموحاتِ.

وریدی صُفّارة النواطیر

و دموعی نقود ٌفضیّة .

ورید الشاعر یذکرنا بآیة: ونحن أقرب اِلیه من حبل الورید. فورید الشاعر مُنطلقٌ لصوت آتٍ من الناطور-باعث الوحی. واذا عجز الشاعر من الوصول الى ذاته او حبل الورید حیث الله یَحزن. والدموع تطهیرٌ من الارجاسِ ومسعىً للرسوبِ الى الذات-الورید او الله. ولا یَملک الشاعر-الدرویش سوى دموعه، فهی ثمینة کالفضة لدیه.

تُمْسِکُنی المنادیلُ و تجرجرنی

نحو محیط قلق .

المنادیل علامة للبکاء ساعة الوداع. ولا یتم الوداع الا قبل السفر. وإن کثرت المنادیل کثرت الاسفار. وأن الاسفار لجالبة للقلقِ المنبعثِ من محیط جدیدٍ فی الرحلة.

یتساقط  الآن الزُّجاجُ

من القَمَـر

على مَجهول الأرض .

تساقطُ الزجاج من القمر دلالة لأمطار الالهام والوحی الروحی والشعری. ویبقى القمر هو الاعلى والسماء ومصدر الوحی والروح والعاطفة...یتساقط الوحی-الشعر على مجهول الارض وهو الشاعر. الشاعر المجهولِ لأنه یظل فی ظلماء الارض وعذاباتها وآفاتها بعیداً عن الله-المُراد...ومن الواضح أن من یبحث عن الضالةٍ قد یکون هو الضالة نفسها ولا یعلم. فالضالة هی المجهول المحتاج الى المعرفة والنور حتى یمتلأ بها لترتفع به اِلى الاعلى حیث الاوج والقمر-المحبوب-الله...

منهج الشاعر هو السلوک العرفانی. ومن أهم أقانیم هذا الشعر هو القمر-الناطور. وفی سلوک العُرفاء الغایة هی الوصول لمصدر الوحی الکامن فی الذات-الورید. عالم حمزة کوتی هو عالم الدرویش-الصوفی الذی یتمتع بالرحلة نحو اللهِ. مع وجود واقع سئٍ نجد إمارته بکثرة فی مَناحٍ عدیدة من شعره. إن أجزاء ومنعطفات رحلة حمزة کوتی السلوکیة فی هذا الشعرِ تتبلور رموزاً فی الطبیعةِ. الفراشات والنباتات والقمر والنجوم والطیور والقرویة...تصبغ الشعر بطابع الطبیعة. وهذا یدلُ على حصول المُتعة من الاحتکاک بالطبیعة لدى الشاعر.

مع التأکید على جودة وصواب الشعرهذا ، لی بعض الملاحظات فی ما یخصه وهی: الف- أن هذا الشعر متوغلٌ فی الغموضِ بحیث لا یجد القارئ قصد الشاعر بسهولةٍ. أقول هذا على الرغم من أنی أجد متعة أکثر فی شعر قابل للتأویل. لکن حب التأویل لا یجب أن یجعلنا نغوصُ بعیداً عن فهم القارئ. فکثیراً من القراء یقرؤون شعراً کهذا وکأنهم لا یقرؤون. واما الملاحظة باء: إن التعبیر الصوفی یبعد الشاعر الى حدٍ کبیرٍ عن الواقع المُعاشِ. إنّ النزعة الصوفیة-الفردیة ترشح بشطحاتٍ لا تمت بصلة وطیدة بواقع جمعی. فالمجتمع الیوم لا یعانی من هاجس عرفانی أکثر مما یعانی من هواجس الجوع والفقر والبطالةِ وضیاع الهویة واللغة العربیة وعدم وجود الحریة والعدالةِ...

الفردیة المفرطة تؤدی بنا الى إنبتاتٍ عن الحیاة والواقع. والانبتات لن یخدم المجتمع. إن الفردیة الصوفیة تفرغ الفن من المسئولیة الاجتماعیة. على هذا ارجو من شعراءنا أن لا ینبتّـوا عن الناس لان الناس هم الشعر. والشعر من دونهم لن یستمر بالحیاة. الملاحظة سین- التشتت او التبعثر فی هذا الشعر یجعل القارئَ شارد الذهن. ویصعب الترکیز على اقنومٍ ومرکز ومحورما ...وفی الواقع أنّ الشعر تقل فیه الاقانیم ولایجد القارئ لذهنه مرکزاً ومحوراً یسند قرآئته وفهمَه علیهِ. الشعر هذا عبارة عن قفزاتٍ فی اتجاهات متباعدةٍ، تحتاج الى قارئ متمرس کثیرِ القراءة حتى یجد خیطاً او خیوطاً یخیط بها اجزاء الشعر ویجمعهما بعضاً الى بعضٍ.

واما ملاحظة لام- قلة القافیة فی الشعرِ تقلصُ من متعتهِ. إن القوافی لا تنعدم کاملا فی الشعر هذا، بل تظهر فی أماکن محدودة ومتباعدة ما یخفتُ  تأثیرها الایجابی على المسامعِ. حبذا لو إکترث حمزة کوتی اکثر للقافیة وضرورتها. فإنّ الإتیان بها لا یکلف الشاعر کثیراً و وجودها یساعد على القراءة والفهم وهی بمثابة عناوین لأجزاء الشعر.

ملاحظة میم- هناک موسیقى لهذا الشعرِ، والشعر لا یفقد ترنیمته الصوتیة اِلا قلیلا. قد یکون هذا دالاً على اُذنٍ موسیقیة جیدة للشاعرِ. ولکنها لیست کافیة بحیث یتبع الشاعر ترنیمة او وزناً بعینهِ. أنا لا اُعارضُ النثر بل اعتبرهُ نوعاً من الحریة المؤدیة لمضمونٍ انضج واغنى. معهذا لا ننسى أن للوزنٍ تأثیراً کبیراً فی إمتاع القارئ والمستمع للشعر. واما بالسنبة لحمزة کوتی فی هذا الشعر وکما قلتُ أنه یقترب کثیرا من البحورِ العروضیة، وخاصة بحر المتدارکِ والرجز، والعینات على هذا:

یحضرن ثلاثة= متدارک

ویبتسمن للاصابع التی= رجز

فی کبد التین= متدارک

نجمٌ یزیح الستار= رجز

کیفیة الحجر= رجز

جدی یعانقه= متدارک

والدنیا کوابیسُ= متدارک

....

وأخیراً...إن الشاعر الاهوازی الشاب حمزة کوتی لهو من الشعراء المجددین الذین یحیون اللغة العربیة فی الاهواز. فلا حیاة للغةٍ ما دون الابداع الادبی فی تلک اللغةِ. وأفضل إبداعٍ للغة العربیة هو إبداعٌ فی الادب العربی الحدیثِ. هؤلاء الشعراء المجددون الحداثویون یحیون اللغة العربیة بإثراء الرصید الادبی العربی لها، فعلینا أن نشدَّ على إیدیهم ونفسح لهم المجال للنشاط والنمو ولکن فی نفس الوقتِ نذکَّرهم بإن الشعر والادب الاهوازیین لا ینبغی أن ینبتــَّان عن الواقع ففی حال حدوث هذا الامر فلن تجدی الکتابة لأنها تبقى بعیدة عن فهم وقراءة الجماهیر. ولا ننسى أن الفردیة الادبیة جمیلة و واجبة لحدٍ ما، لحدٍ تنأى عن السطحیة والشعبویة وتفسح مجالا فی العرض والطولِ لتنمو فی ضمیر الانسان الکونی الازلی الابدی وتصیر ابداعاً خالدا. والابداع یعنی ما ینفع الذات والآخر وهو جمیلٌ وعمیق. کذلک لاننسى أن إعتلاء الروح البشری لن یحصل من دون التفاعل مع الناسِ والاحساس بالمسئولیة تجاههم والقیام بخدمتهم وإلا لَما خُلِقَ الانسان لو کان یستطیع تدرج مراحل الکمال من دون الحاجة الى الآخرین. فنحن خُلقنا مع الناس وبین الناسِ لکی نکون جزءا لا یتجزءُ منهم، وهذا أهم شرط للفلاح الدنیوی والاخروی.

 

موافقین ۱ مخالفین ۰ ۰۰/۰۹/۲۲
عبدالحسین الباوی

التعليقات  (۰)

لا يوجد تعليق

إرسال وجة نظر

ارسال نظر آزاد است، اما اگر قبلا در بیان ثبت نام کرده اید می توانید ابتدا وارد شوید.
شما میتوانید از این تگهای html استفاده کنید:
<b> یا <strong>، <em> یا <i>، <u>، <strike> یا <s>، <sup>، <sub>، <blockquote>، <code>، <pre>، <hr>، <br>، <p>، <a href="" title="">، <span style="">، <div align="">
تجدید کد امنیتی